تأملات في القومية واليمين المتطرف وأسطورة العرق الخالص



اليمين المتطرف والعرق
ألمانيا 1945 (الجمجة من إضافتي)
ملاحظات قبل قراءة المقال:

  1. إذا كنت انتقد الاطروحات العرقية فهذا لا يعني انني أنكر الاختلافات التي بين البشر سواء من حيت اللون او الشكل.
  2. القومية التي اتحدث عنها هنا هي القومية اليمينية وليست اليسارية رغم انهما متشابهتان في العديد من النقاط.
  3. انتقادي للأحزاب القومية لا يعني انني أنكر هويات الشعوب وثقافتها ولغاتها...
  4. إذا كنت انتقد اليمين المتطرف والقومية واليمين عموما فهذا لا يعني أنني مناصر للاشتراكية أو الشيوعية.
في الفيسبوك على الأقل ظهر مجموعة من النازيون الجدد الذين يروجون لأفكار كنا نعتقد أننا تخلصنا منها إلى الأبد كالعرق الصافي والدكتاتورية كمصدر ملهم القوة والعزة والتسامح مجرد خرافة يسارية والحريات الفردية لا يدافع عنها سوى الشادون "الزوامل" حسب تعبيرهم والفيمينزم والمدافعون عن حقوق المرأة "مخصيون" أي يفتقدون للرجولة لان النساء وجدن فقط لطاعة الرجال والانصياع لأوامرهم. مجموعة من التخاريف صراحة لا يمكن ان تؤخذ بجدية، لان معظم المنشورات في الفيسبوك بخصوص هذا الموضوع تكون في جو كوميدي ساخر يتبادل فيها المعلقون السب والشتم والسخرية، وحتى من يدعي منهم الجدية ويكتب تدوينة طويلة نسبيا فإنه يتبع أسلوب الدعاية بحيث الهدف هو الدعاية عن طريق كلام بدون مصادر وإشاعة الأكاذيب، لكن لابد أن نتحدث عن هذه العقلية ما دامت تعتمد أسلوب البروباغندا او الدعاية.
قد يعجبك أيضا: هل الحرية ركن من أركان اليمين ؟

أسطورة العرق الخالص النقي

البشر هم نتيجة تطور بيولوجي عن طريق الانتخاب الطبيعي قبل ملايين السنين، ولديهم أصل مشترك ليس مع القرود فحسب كما يعتقد الكثيرين من الذين لم يدرسوا أو يطلعوا على مفهوم التطور البيولوجي، بل مع الكلاب والقطط والطيور والديناصورات والحيتان والدلافين وبصحة عامة كل الكائنات الحية الأخرى، ولا ننسى النباتات التي هي كائنات حية أيضا، فكل الكائنات الحية والمنقرضة تنحدر من أصل مشترك واحد. والإنسان العاقل يعود تاريخه الى ازيد من 350 ألف سنة، لا يعني هذا انه انبثق من العدم او نزل من السماء او ما شابه، بل هو نفسه تطور من أسلافه التي سبقته، العلماء أخذوا مرحلة معينة من ذلك التطور والتي تطابق فيها خصائص الانسان الحالي خصائص ذلك الانسان فسموه "الانسان العاقل"، واستمر استعمار القارات من قبل الانسان العاقل منذ ذلك الوقت الى اليوم.
قد يعجبك أيضا: ما المقصود ب"العرق القوقازي" ؟ و ما السبب في تفتح بشرة الأوربيين ؟
يما أن البشر لديهم نفس الأصل المشترك، وبما ان البشر يتزاوجون بينهم ويرتحلون منذ القديم فهل يبقى معنى لمفهوم "العرق الصافي"؟ الأبحاث الجينية تبين ان معظم من يجرون الفحص الجيني ينحدرون من مناطق مختلفة في العالم مثلا امازيغي يجري الفحص الجيني ويكتشف ان أصوله من شمال افريقيا بنسبة معينة وأوروبا بنسبة معينة والشرق الأوسط بنسبة معينة وجنوب الصحراء الكبرى بنسبة معينة، مهما كانت تلك النسب الجينية صغيرة امام الهابلوغلوب او الجينوم المميز للأمازيغ E-M81 فإنها تنفي ما يسمى "العرق الصافي"، فالشخص الذي ينتمي الى العرق الصافي يجب ان تطابق معطيات الفحص الجيني لديه 100% هبلوغروب "العرق" الذي يدعي أنه خالص وينتمي إليه. لكن لا نجد هذا بل تجد ان العناصر المشكلة لجينوم كل شخص تنحدر من مناطق مختلفة وهذا ينفي ما يسمى العرق الخالص. 
كما أن رواد بروباغندا العرق في الويب يتجاهلون او يجهلون العديد من النقط الأساسية في هذا الموضوع، وهي انه إذا حددنا العرق بواسطة الجينوم المميز للشعوب في المناطق الجغرافية أي الهبلوغروب فإن الأعراق إذا كلها من عرق واحد أساسا وكل ما حدث انها تفرعت عنه، أي أنه علميا كل الأعراق الموجودة اليوم تنحدر من عرق واحد، كما ان كل الأعراق عمرها قصير جدا وحديثة العهد بالنسبة الى مسيرة التطور التي استلزمت ملايين أو ملايير (بلايين) السنين.
في الأسفل صورة نموذجية توضيحية، إذا افترضنا ان العرق مرتبط بالجينات او الهابلوغروبات، فإن البشرية كلها تنحدر من أصل مشترك أي من "عرق واحد" منه تفرعت كل "الأعراق" التي نعرفها اليوم. وبالجينات أيضا فإنه لا يوجد عرق خالص نقي، لنأخذ مثلا أمازيغي قام بالفحص الجيني، مثلا سيجد توزيع الهبلوغروبات لديه على هذا النحو: 80% أصول شمال افريقيا، 10% أصول أوربية 5% أصول جنوب الصحراء الكبري، و5% أصول شرق أوسطية. ومعظم من يجرون الفحص الجيني اليوم يجدون ان أصولهم مختلفة، حتى ان طغى اصل على باقي الأصول مثلا 80% فهذا لا يعني انه خالص عرقيا، وبصفة عامة إذا قمت بالفحص الجيني ولم تجد أن الهبلوغروبات لديك تطابق 100% هبلوغروب معين ك E-M81  فأنت لست خالص عرقيا ولا تنتمي لأي عرق خالص !
أصول الأمازيغ وباقي الأعراق

الأعراق ليست السبب المفسر لتطور بعض الحضارات وتخلف أخرى كما لا تفسر مستوى الذكاء

من الرائج أن يقول المتعصبون للعرق الأبيض "الأوربيون متقدمون على الأفارقة وأصحاب البشرة الداكنة (السوداء) بسبب كون الأبيض أذكى من الأسود" او قولهم "كل الشعوب المتقدمة اليوم شعوب بيضاء وكنتيجة فإن الذكاء مميز للعرق الأبيض والغباء مميز للسود". تلك إذا أحكام عامة كلها تطبق مغالطة التعميم. لكن التاريخ يبين لنا عكس هذا الهراء، ألم يكن الأوربيين ذات يوم متخلفون بالنسبة للعرب والمسلمون؟ ألم يكن الأوربيون واليبانيون متخلفون ذات يوم أمام الفراعنة؟
لقد كان المسلمون الذين نعتبرهم أقل بياضا من الأوربيين البيض متقدمين عسكريا ومعرفيا أيضا حيث تطورت الفلسفة والطب والرياضيات، فكلمة "الجبر" Algèbre Algebra مثلا التي هي شعبة في الرياضيات كلمة عربية في الأساس، وتطور الفلسفة في عصر العباسيين ساهم في نقل الفلسفة الاغريقية الى أوربا والتي كانت من اهم أسباب بداية عصر النهضة ومن تم عصر الانوار والتطور العلمي والفكري الذي نتج عن كل ذلك، هنا قد يقول العرقي ان المسلمون نقلوا فقط فلسفة الاغريق وترجموها والإغريق بيض أكثر بياضا من العرب، لكن ومع ذلك فإن المسلمين هم المتقدمون في تلك الحقبة على الاغريق وعلى أوربا، وساهموا في عدة ابتكارات ومعارف. وأستعمل لفظة "مسلمون" هنا بعيدا عن الدين والمعتقد وأشير بها الى الذين يعيشون في ضل الإمبراطورية الإسلامية آنذاك. 
والفراعنة أيضا كانوا متقدمين في الرياضات خصوصا الهندسة التي وظفوها لبناء الأهرامات، كما تطورت لديهم المعارف الأخرى مما جعلهم متقدمين بالنسبة للعديد من الشعوب، والمصريين (في عصر الفراعنة) ملونين أي انهم أقل بياضا من الأوربيين، كذلك الحضارة الهندية التي ابتكرت عدة أفكار وفلسفات وكانت متقدمة ذات يوم بالمقارنة مع العديد من الشعوب التي نصنفها اليوم على انها بيضاء. حضارات بلاد الرافدين العريقة كالحضارة السومارية، فعندما نتحدث عن الشعوب وعلاقة التقدم والتطور فيما بينها فلا ينبغي أن نعتبر العصر الحالي فقط، بل لابد أن نعود للتاريخ ونأخذ بعين الاعتبار ان مفهوم التقدم والتطور نسبي جدا، فالحضارة تشهد ثلاث مراحل أساسية: النشأة، أوج التقدم، الانهيار. 
يتبين من خلال ما سبق إذا ان العرق ليس مسؤولا عن التقدم والتطور لدى الشعوب، فما المسؤول إذا عن اختلاف التنمية والتقدم العلمي والمعرفي بين الشعوب؟ انه ببساطة سياسة الدولة والثقافة المنتشرة في المجتمع، أي عوامل سياسية واجتماعية، فالمجتمع الذي يفرض قيودا على الحرية في التعبير ويضطهد المفكرين والمبدعين يكون متخلفا على المجتمع الذي تنتشر فيه قيم الحربة والتسامح. كما ان الذكاء لا يرتبط بالعرق ولا بالجينات، وفي أحسن الأحوال إذا ثبت ارتباط الذكاء بالجنات (او الوراثة) فإن الجينات لن تؤثر في الذكاء سوى بنسبة أقل من 1% كما تقول معظم الدراسات، ولو كان الذكاء يورث فمن المفروض ان يكون لكل عالم رياضيات ابن يصبح بدوره عالم رياضيات ويرث الطفل نفس المهارة من أبيه وأمه، لكن الواقع ينفي كل هذا، فمهارة والذكاء مكتسب وليس موروث، ولتكون ذكيا عليك بتطوير تلك الخاصية او المميزة عن طريق التفكير والتجارب والتمارين ... 

الدكتاتورية المبنية على مفهوم العرق

لقد أسس الزعيم النازي الألماني هتلر نظامه الدكتاتوري على قناعات عرقية مثل اعتبار العرق الآري حيث الاعين زرقاء والبشرة البيضاء أفضل الأعراق وأنقاها وأعلاها شأنا، ويرى باقي الأعراق بدونية واحتقار خصوصا اليهود، وهذه القناعة قادته الى اشعال فتيل الحرب العالمية الثانية، وقتل 6 ملايين من اليهود أغلبهم عن طريق المحرقة "الهلوكوست"، وقد راح ضحية الحرب العالمية الثانية ملايين الضحايا من المدنيين والعسكريين ومدن بكاملها أصبحت ركاما ودمرت البنيات التحتية المهمة في أوربا وفي مناطق أخرى في العالم، وفي المجمل فإن الحرب كلفت الدول المشاركة فيها الكثير من الأموال والأرواح، أي أنها عادت بالبشرية خطوة الى الوراء، ذلك قبل ان تتعافى أوربا بعد الحرب وتبدأ الإعمار من جديد. 
لهذا أنا أهتم بهذا الموضوع لان الاشاعات والأكاذيب والدعاية للأنظمة الدكتاتورية والفاشية يشكل خطورة كبيرة على أمن وسلامة الشعوب والأجيال القادمة، ولنفس السبب علينا الرد على هذا الهراء الذي ينتشر في الانترنيت على شكل منشورات وفيديوهات الدعاية. يعتقد الكثير من رواد الفيسبوك المروجين للعنصرية المبنية أساسا على العرق أنهم أتوا بجديد، غير انه مجرد هراء سبق وان هزم بالماضي وسيهزم مجددا، إنه مجرد عودة العقول الى الماضي لأنها عقول تحب التخلف وتهرول أينما وجد ولو كان في الماضي البعيد.
قد يعجبك أيضا: الأصول الدينية لاضطهاد المثليين و "الملحد اليميني"

اليمين المتطرف والقومية

القناعات العرقية والدينية المتطرفة كلها أمور تحفز التفكير المنغلق وتؤدي الى مجتمع منغلق على ذاته ما يؤدي الى ظهور أحزاب قومية يمينية في عدد من دول العالم، وتلك الأحزاب تحاول جاهدة الوصول الى السلطة، وفي بعض الدول نجدها فعلا وصلت الى السلطة وتحكم غير انها تختلف نوعا عن اليمين المتطرف كما كان عليه قبل 1945، فاليمين المتطرف اليوم في البلدان الديمقراطية يزعم احترامه للديمقراطية وحقوق الإنساني، إلا انه لا أحد يعلم النوايا الحقيقية لزعماء وقادة الأحزاب اليمينية والقومية إذ لن نتفاجأ اذا انقلب حزب ما على الديمقراطية وقضى عليها وعاد بالدولة الى ما كانت عليه ألمانيا في عهد هتلر، مع الاخذ بعين الاعتبار انني اتحدث عن الأحزاب اليمينية في الدول الديمقراطية اما دول العالم الثالث والتي تحكمها أنظمة دكتاتورية شمولية فينبغي ان نركز أكثر على الحاكم الفعلي لتلك البلاد سواء كان رئيسا أو ملكا او أي شكل من أشكال الحكم.